رأس السنة الثالث والخمسين
ممدوح الشناوي
بعد أن لملم أوراقه من على مكتبه ودفنها كعادته في درج مكتبه السفلي، سحب ما تبقى من صفحات جريدة الصباح لترافقه كالعادة في طريق عودته إلى المنزل. قادته أقدامه إلى موقف السيارات المزدحم وألقى بجسده المنهك في المقعد المجاور للسائق، الذي كان في استقباله بضحكة عالية وسؤال ساخر “هتقضي رأس السنة فين يا أستاذ علي؟؟”. بادل السائق ضحكته العالية بضحكة مكتومة وهزة رأس.. ثم غرق في بحر من الصمت.
أكثر من 50 رأسا قد تطايرت أمام عينيه ولم يلق لها بالا. فعلى الرغم من كل هذا الصخب والضجيج، الذي غالبا ما يصاحب تهاوي رؤوس الأعوام، إلا أن رأسه لم تكن مشغولة يوما لا ببداياتها ولا بنهاياتها، فكل الأيام والأعوام عنده كانت تحمل نفس التفاصيل.
لكن هذا العام يجب أن يكون الأمر مختلفا، فجأة انتصب ظهره في مقعده ومد يده ليدير مرآة السيارة ينظر إليها بتركيز شديد، وبدأ يتصفح فيها ملامح وجهه بدقة، يحاول أن يحصي فيها خطوط الزمن وأختامه، ويتأمل بشجن زحف الشيب على ما تبقى في رأسه من شعر. و فجأة تلمع في عينيه رغبة ونية وإرادة في التغيير، فربما ظهر في حياته ماجعله يهتم ويتابع أوراق التقويم ويعلم أن بينه وبين رأس السنة ـ فقط ـ ورقة واحدة. “لن تمر رأس هذه السنة كسابقيها. وسيكون العام الجديد جديدا في كل شيء، سأقهر الشيب وأرمم شروخ الزمن وسأفتح كل نوافذ قلبي لتسطع فيه شمس حب واعدة، سأرمي كل ما في غرفه من لفافات قديمة وكراكيب، وسأفرشها بأثاث فاخر يليق بساكنته الجديدة”.
نزل من السيارة بنشاط غير عادي ولم يلتفت إلى الطريق المؤدية إلى منزله، بل اتجه مسرعا إلى درب آخر. خطوات قليلة كان بعدها بين يدي حلاقه العجوز، وبعد حوار قصير أدرك الحلاق بخبرته ما يريده زبونه القديم. وبدا كساحر خبير في سيرك شعبي عتيق، يدور حول الرجل المستسلم في كرسيه صامتا ينتظر بشوق إطلالته الشابة.
لحظات انتظار وترقب عاشها الرجل على صوت مقص حلاقه وأحاديثه المكررة. وأخيرا بعد أن تشرب شعره صبغته وإرتوت بشرته الجافة بأكثر من صنفين من كريم الشد والسنفرة، رفع الحلاق الفوطة من على رأسه بثقة كأنه يرفعها من على نصب تذكاري ليقف الرجل في ذهول يتابع شكله في المرآة وقلبه يرقص فرحا بتفاصيل رأسه الجديدة.